لورين بانكو

إحدى الإسقاطات المركزيّة والمستديمة للنكبة هي الحظر شبه المُطلق على دخول اللاجئين الفلسطينيين الذين فقدوا بيوتهم في العام 1948 إلى إسرائيل. يُضاف إلى ذلك منع إسرائيل لهجرة غير اليهود من البلدان العربيّة المجاورة إليها، وهو شرط مفهوم ضمنًا من أجل تمكين المشروع الصهيونيّ. لكنّ الحظر المنهجيّ على هجرة العرب إلى إسرائيل\فلسطين لم يبدأ منذ العام 1948، وله جذور في المفاهيم الخاصّة للعرقيّة والقوميّة كما تمّت صياغتها في المعاهدات القانونيّة الدوليّة، والتي شكلت إطارًا لعمل دولة الانتداب البريطاني الاستعماريّة في فلسطين، وهي الدولة التي ورثتها الحركة الصهيونيّة.

إن الفكرة المثاليّة التي تنادي بالتجانس العرقيّ لسكّان الدولة الوطنيّة هي ما وجّه عمليّة بناء وإدارة الشرق الأوسط العربيّ بعد الحرب العالميّة الأولى. يُمكن رؤية هذه السياسة في معاهدة لوزان الموقّعة عام 1923، والتي أنهت حالة الحرب بين تركيّا والحلفاء، وكان لها تأثير هائل على فلسطين. إذ يسمح البند 32 من المعاهدة للبالغين المقيمين الدائمين في المناطق التي ستنفصل عن الامبراطوريّة العثمانيّة، في حال كانوا جزءًا من أقليّة عرقيّة في مناطقهم، بأن يختاروا لأنفسهم وطنيّة أي دولةٍ من الدول الخاضعة للامبراطوريّة العثمانيّة، شرط أن يكونون فيها جزءًا من الأغلبيّة العرقيّة. وتُلزم المعاهدة أي إنسان على ممارسة هذا الحقّ خلال عامين من بدء تطبيقها، والانتقال إلى مكان إقامته في الدولة اختارها، والتي يتماهى مع أغلبيّتها العرقيّة. وكان المنطق من وراء هذا الشرط هو تشجيع التنظيم العرقيّ والقوميّ في إطار الدولة الوطنيّة.

لم يكن بإمكان العرب في سوريا والعراق، وفق البند 32، أن يختاروا الوطنيّة الفلسطينيّة بما أنّهم ينتمون إلى الأغلبيّة العرقيّة في دولتهم. وقد دفعت هذه السياسة نحو شرخٍ دراماتيكيّ في تاريخ طويل من الحركة غير المقيّدة، نسبيًا، بين الفلسطينيين والدول العربيّة المجاورة. وقد تناغم تمامًا قمع هجرة العرب المسلمين والمسيحيين إلى فلسطين مع التزام الدولة الانتدابيّة، بريطانيا، بإنشاء بيتٍ قوميّ لليهود هناك. ذلك مع أن بريطانيا منعت اليهود الناطقين بالعربيّة أيضًا من إمكانيّة الهجرة إلى فلسطين، إذ رأت بأن هؤلاء اليهود في العراق وسوريا ولبنان ينتمون إلى الأغلبيّة الاثنيّة واللسانيّة في أوطانهم – العربيّة. [i]

بحسب التصورّ الكولونياليّ الأوروبيّ للعرقيّة، تكفي الاشكنازيّة، أو المحافظة الدينيّة، أو الأرثذوكسيّة اليهوديّة لتشكّل عرقيّة يهوديّة. ولم يشمل هذا التصوّر اليهود الناطقين بالعربيّة ممّن عاشوا في الشرق الأوسط. وعليه، ثلاث سنوات قبل معاهدة لوزان، لم يوزّع مكتب فلسطين شهادات الهجرة لليهود الناطقين بالعربيّة أو للذين عاشوا تاريخيًا في المناطق العربيّة، كما ذكر والتر زينر وأفيفا حلاميش، وفريد غوثيل في أعماله المتأخرة. ونجد هنا حالة خاصّة في هذا القرار وهي حالة اليمن، رغم أن عدد اليهود اليمنيين الذين تلقّوا شهادات الهجرة كان ضئيلًا جدًا. لم تشمل معاهدة لوزان اليمن، ولم يعتبر البريطانيّون والمنظمة الصهيونيّة (“المنظمة الصهيونيّة العالميّة” في أيّامنا) اليهود اليمنيين عربًا تمامًا. إنما، بحسب كتابات أفيفا حلاميش، اعتبروهم قوة عاملة يُمكن تسخيرها في فلسطين، ولها مزايا ثقافيّة مشابه، بما فيه الكفاية، للعرب الفلسطينيين. وذلك ليتمكنوا من استبدال العرب بهم للأعمال التي لا تحتاج خبرات عالية.

اتفقت القيادة الأشكنازيّة الصهيونيّة في فلسطين، إلى حدٍ بعيد، مع الميول البريطانيّة للتعامل مع اليهود غير الأوروبيين على أنهم منفصلين عرقيًا. تمامًا كما أن التأويل البريطانيّ لمعاهدة لوزان لم يعامل متحدّثي لغة اللادينو (اليهوديّة-الإسبانيّة) أو اليهود العثمانيين الناطقين بالعربيّة كعرقٍ منفصلٍ عن المسلمين والمسيحيين، وقد زاد نبذ هؤلاء من العرقيّة اليهوديّة لأنهم لم يكونوا تحت رعاية المنظّمة الصهيونيّة. لم يكن للمنظّمة الصهيونيّة أي حافزٍ جديّ لدعوة هؤلاء إلى فلسطين من أجل توطينهم في وطن اليهود. إن التوجّهات العرقيّة كما ثُبتت معاييرها بموجب البند 32 وبالفكر الصهيونيّ، بما يتعلّق بفلسطين، تقضي بألا تُعتبر العائلات اليهوديّة المعروف من بغداد، حلب، دمشق والقاهرة، عائلات يهوديّة في ما يتعلّق بهجرتها إلى فلسطين، وأقصاهم ذلك من حقّهم بالهجرة السهلة إلى فلسطين كجزء من “العرق” اليهوديّ.

تثبت الرواية التاريخيّة لليهود في الوطن العربيّ قبل العام 1948 بأن رغبة معظم اليهود – عراقيين وإيرانيين وسوريين ومصريين ولبنانيين- بالهجرة إلى البيت الوطنيّ اليهوديّ في فلسطين تحت الهيمنة الأشكنازيّة، كانت ضعيفة بغضّ النظر عن الظروف.  ومع هذا، وُجدت حالات قليلة شعر اليهود أنفسهم أقليّة في المناطق العربيّة، أو أنهم رغبوا بانتهاز الفرص الاقتصاديّة في فلسطين. في الثلاثينيّات فقط، تلقّى اليهود العراقيين والإيرانيين عددًا محدودًا من تصاريح الهجرة، وذلك مع تراجع رؤية معاهدة لوزان للتجانس العرقيّ في دول ما بعد الحرب.

لقد تغيّر دور العرق في النصّ القانونيّ في سنوات ما قبل وما بعد النكبة، وقد أثّر هذا التغيير بشدّة على السكّان اليهود في دول الأغلبيّة العربيّة. بعد طرد الفلسطينيين من غير اليهود في العام 1948 (وفي 1967 مرةً أخرى)، جرّدتهم إسرائيل من المواطنة بموجب قانون المواطنة الإسرائيليّ الجديد، والذي أبطل مواطنة الانتداب. وأتاح فهم انتماء اللاجئين الفلسطينيين للعرق العربيّ بتطور خطاب لدى إسرائيل والأمم المتّحدة يجزم بأن بإمكانهم الاندماج في الدول المجاورة ذات الأغلبيّة العربيّة. في هذا الموضع، فإن التوجّه البريطانيّ بالنسبة للعرق شكل عاملًا أساسيًا في الادعاء الإسرائيليّ بأنه من الممكن أن يتم توطين اللاجئين في أي مكانٍ آخر غير فلسطين في الوطن العربيّ، وأن يتماهوا مع ذلك ببساطة.

في أوائل الخمسينيّات، لم تتفق إسرائيل على ذات التوجّه بما يتعلّق باليهود من سكّان الدول العربيّة. بينما احتاجت تحت الانتداب البريطانيّ قوى عاملة رخيصة فاستثنت اليهود اليمنيين المتحدّثين بالعربيّة.  وأدت ضرورة الاستيطان في المناطق المحتلّة في حرب العام 1948 إلى بلورة تصنيفٍ عرقيٍ أشمل لليهود من كافة أنحاء الشرق الأوسط. تم تشجيع اليهود في الأراضي العربيّة (وأجبروا في بعض الأحيان) على الهجرة إلى إسرائيل والاستيطان بالدولة الجديدة، وذلك بعد أن قُتل إبان المحرقة النازيّة عدد هائل من اليهود الأشكناز الذين كانوا ذوي الأفضليّة للاستيطان. الا أنه إبان الانتداب البريطانيّ، كان قد اتفق البريطانيّون والحركة الصهيونيّة، ولأسباب مختلفة، بأنه غير مرحب بيهود البلدان العربيّة (ممّن باتوا يسمّون اليوم “مزراحيم”) ليكونوا أبناءً للبيت اليهوديّ القوميّ. ولم يتغيّر ذلك إلا بعد طرد العرب الفلسطينيين خلال العام 1948، حيث عَرّف الإسرائيليّون يهود البلدان العربيّة، بعد حصيّلة الحرب، كجزء من خانة التقسيم العرقيّ “اليهوديّ”.

[i]  مذكرة هربرت صموئيل إلى المكتب الكولونياليّ، تمّوز 1921، مركز الشرق الأوسط للأراشيف، أكسفورد.