ربيع اغبارية

لم تقتصر النكبة على قتل وتهجير الانسان الفلسطيني وتدمير مئات القرى بالكامل وشرذمة الشعب الفلسطيني ما بين الداخل والشتات. كذلك، لم تقتصر النكبة على اخضاع من تبقى من الفلسطينيين في أرضه إلى سيطرة المستعمر وقانونه. فقد رافقت النكبة، بكونها عملية توسّع مستمرّة للمنظومة الصهيونية الاستعمارية، مشاريع من أجل هندسة واعادة انتاج الطبيعة لخدمة المستعمر وسياساته، ولعزل الانسان الفلسطيني عن بيئته الطبيعية. فقد كانت سياسات الطبيعة، وما زالت، وسيلة أساسية للاستيلاء على الاراضي الفلسطينية، واداة تحاول من خلالها شرعنة التملّك الاسرائيلي للأرض والمكان. استخدمت سياسات الطبيعة لفرض معادلة تحاول تنصيب الفلسطيني بدور من يجهل ويضر بالطبيعة وبالتالي فهو عدوها، في حين أنها اعتبرت الاسرائيلي هو من يقدرها، يعرفها ويحميها وبالتالي فهو صاحبها ومالكها. بموازاة ذلك، شكلت الموارد الطبيعية في فلسطين أرضًا خصبة لمشاريع استغلال الطبيعة ولتمكين الاقتصاد الاستعماري ولخدمة رفاهية المستوطن الاسرائيلي. سيشكل هذا النص محاولة مقتضبة للإشارة الى جزء من سياسات الطبيعة هذه – بل “نبكة الطبيعة” – وربطها بالأدوات القانونية التي رافقتها، من خلال التمعن في مشاريع التحريش التي نفذتها “كاكال” (الصندوق الدائم لإسرائيل) في الأراضي الفلسطينية.

أحراش “كاكال”: سياسات التحريش، الاستيلاء على الأرض ومحو الحيّز الفلسطيني

منذ تأسيسها عام 1901، شكّلت “كاكال” وهي من أولى المؤسسات الصهيونية، جزءًا أساسيًا في مشروع الاستيطان الصهيوني للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية، حيث عملت على شراء أراضٍ لتهيّء البنية التحتية للاستيطان. منذ سنواتها الأولى، رافقت مشاريع “كاكال” لشراء الاراض الفلسطينية محاولات تحريش عدة تهدف الى هندسة الحيز الجغرافي الفلسطيني من جديد وخلق طبيعة تلائم منظور المستعمر الاوروبي للأرض والمكان. ذلك بالإضافة إلى أهداف أخرى، اقتصادية منها وقومية، مثل خلق أماكن عمل للقادمين الجدد وبناء ذاكرة قومية تخلّد شخصيات صهيونية بواسطة أحراش تحمل أسماءهم (يذكر في هذا السياق اقامة “غابة هرتسل” كأول مشروع تحريش عام 1907). رغم دراسة جغرافية المكان واقتراح مخططات عدة لتنشئة الاحراش والمباشرة بتنفيذ بعضها، بقيَت غالبية مخططات التحريش حتى عام 1948 خارج نطاق التنفيذ وتمركزت مساعي “كاكال” بالاستيلاء على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية، حيث نجحت ابان النكبة بشراء ما يقارب مليون دونمًا والتي شكّلت ما يقارب 5 بالمئة من مساحة فلسطين التاريخية.

تزامنت مأسسة الدولة الإسرائيلية، مرورًا بتهجير غالبية الفلسطينيون واحتلال الأرض بقوة السلاح عام 1948، مع تحوّلات جوهرية ببنية ومشاريع “كاكال” وعلاقتها مع الدولة الإسرائيلية، حيث سنّت الكنيست عام 1953 قانون الصندوق الدائم لإسرائيل. وقد تم بحسب هذا القانون اعادة انشاء “كاكال” كشركة اسرائيلية عام 1954، حيث كان من أهدافها المُعلنة شراء وتطوير الأراضي “من أجل توطين اليهود” (دستور كاكال، 1954). وقد تمّت بالتالي قوننة امكانية، بل واجب، “كاكال” في خدمة اليهود فقط في توزيع مواردها وأراضيها. إبان تلك الفترة، ارتفعت مكانة وزادت أهميّة مشاريع التحريش، في حين استحوذت “كاكال” على ما يقارب مليوني دونم اضافيين من خلال انشاء نظام قوانين الأراضي الإسرائيليّ، ومنها قانون أملاك الغائبين-1950، وقانون سلطة التطوير-1950، وقانون شراء الأرض (المصادقة والتعويض)-1953 ولاحقًا قوانين اضافية مثل قانون اساس: أراض اسرائيل وقانون سلطة أراض اسرائيل-1960. شكّلت هذه الشبكة القانونية المعقّدة أساسًا لقوننة السرقة والتملّك الصهيوني للأراضي الفلسطينية كما تأسست بواسطتها أجسام حكومية جديدة لإدارة الاراضي. في أعقاب ذلك، لم تعد “كاكال” (بعد اتفاق مع الدولة الإسرائيلية في العام 1961 تحديدًا)، المسؤولة المباشرة عن إدارة أراضيها، بينما تولّت المسؤولية الحصرية لتنفيذ مشاريع “تطوير البلاد” وتحريشها.

في حين حرّشت “كاكال” ما يقارب 5000 دونمًا فقط بين الأعوام 1944–1948، توسّعت مشاريع التحريش المكثّفة وأخذت بالازدياد تدريجيًا بعد النكبة لتغطي 80 ألف دونمًا اضافيًا ما بين السنوات 1949–1953، أضيف إليها آلاف الدونمات سنويًا لتبلغ مساحة التحريش 150 ألف دونمًا آخر بين السنوات 1964–1968، ليصل اليوم إجمالي المساحات لأحراش “كاكال” على أرض فلسطين إلى ما يقارب ال 1.15 مليون دونمًا.

اتخذت مشاريع “كاكال” من القرى الفلسطينية وانقاضها موقعًا اساسيًا للتحريش، وأمست الأشجار اداة لمحو المكان وما يضمنه من معالم نشأ فيها الانسان الفلسطيني. بحسب مسح أجرته جمعية “ذاكرات”، فإن أكثر من ثلثي أحراش وغابات “كاكال” (46 من أصل 89) اقيمت على انقاض 89 قرية فلسطينية هُدمت بالكامل وهُجّر أهلها. هكذا، مثلًا، تحوّلت  قرية لوبيا الى “ياعار لافي” وغدَت البُطيحَة “بارك هاياردين” والقائمة تطول.

على مر السنين، رافقت وصدّقت المنظومة القضائية على سلب الأراضي من أصحابها الفلسطينيين من أجل مشاريع التهويد المختلفة ومن ضمنها مشاريع التحريش. مرّة تلو الأخرى، أقرّت المحاكم الإسرائيلية أن مصادرة الأرض من أجل التحريش تشكّل “هدفًا شرعيًا” يتوافق مع “تطوير المكان” لصالح “رفاهية السكّان”. هكذا على سبيل المثال، صادقت المحكمة الإسرائيلية العليا على مصادرة أراضي قرية اقرث التي تم تهجير أهلها وتخصيص 5,000 دونمًا منها لإقامة محميّة طبيعية (من أصل 25 ألف دونمًا تمت مصادرتها).

لم تقتصر مصادرة الأراضي على المصادرة بغرض تحريش القرى المهجرة فحسب. في ثمانينيّات القرن الماضي، التمس سكان قرية صور باهر المقدسيّة للمحكمة العليا ضد مصادرة ما يقارب الـ 500 دونمًا من اراضي القرية لصالح مشاريع تحريش بإشراف “كاكال”. وكانت هذه المصادرة جزءًا من مخطط إقامة حي “تلبيوت” في القدس. في قرار المحكمة الذي رفض الالتماس جاء: “يمكننا القول أن قرار السلطات قد يكون غير معقولًا لو لم تُخصَصْ، إلى جانب المساحة المبنية، مساحة “خضراء” تشمل جنائن واحراش وأشجار لصالح الجمهور”. هكذا، تجاهلت المحكمة سَلب أراضي السكان الفلسطينيين والنتائج المترتبة على ذلك، مثل تفاقم أزمة المسكن، والدفع نحو تطوّر البلدات الفلسطينية ككتل اسمنتية ممتدّة ومكتظة، تخلو هي كذلك من الجنائن والأحراش والأشجار.

بشكل مشابه، صودر عام 1976 أكثر من 4,500 دونمًا من قرية المشهد والرينة وعين ماهل لصالح توسيع الاستيطان في بلدة “نتسيرت عيليت”. بعد مرور أكثر من 30 عامًا دون تنفيذ أي مشروع تحريشٍ مزمع في هذه الأراضي، التمس سعيد دهامشة للمحكمة العليا مطالبًا باسترجاع 15 دونمًا كانت ملكيته وتمت مصادرتها عام 1976. رغم السوابق القانونية التي تنص على ارجاع الأرض إلى أصحابها في حالة مرور وقت طويل لم تُنفَّذ فيه المشاريع التي من أجلها تمت المصادرة، أقرّت المحكمة أن مصادرة الأرض لن تبطل بحجّة أن “وجود مساحات خضراء التي تخدم سكّان المنطقة هو جزء من التطوير البيئي للمنطقة” ورغم مرور عقود دون تنفيذ الخطة إلا أن المحكمة أقرت أن عليها الأخذ بعين الاعتبار أن المصادرة تمت كجزء من مشروع “تطوير وتوطين” طويل الامد يستغرق وقتًا طويلًا حتّى يتم.

علاوة على ذلك، استمرت المحكمة الإسرائيلية العليا بقراراتها المجحفة بحق الإنسان والمكان ورفضت عام 2010 استئناف قدّمه اهالي قرية اللّجون المهجّرة بواسطة جمعية “عدالة” طالبوا فيه باستعادة 200 دونمًا اقيمت عليهم “غابة مجيدو”، متحدّين الشروط القانونية لمصادرة الاراضي لإقامة “أحراش طبيعية”. لم تكتفِ المحكمة في قضية اللّجون بالمصادقة على سلب الأراضي، بل أكّدت على أهمّية التحريش ودوره في المشروع الصهيوني، مستعينةً بأدبيات صهيونية، أقرّت من خلالها أن: “التحريش في الأماكن المُقفَرة او المهجورة اتّخذ مكانًا مركزيًا في روح الجماعة التي أقيمت بالاستناد اليها دولة اسرائيل، بدوره يقوم بتطوير البلاد ويزهر البرّية المُقفرة”. بهذا، تكرر المحكمة الرواية الصهيونية تجاه طبيعة أرض فلسطين حيث تصورها كأرض “مهملة وصحراوية” وتعيد انتاج ثنائية الإسرائيلي بصفته صديق الطبيعة ومَالِكها مقابل الفلسطيني الذي يهملها ويحوّلها الى مكانٍ مقفر وبالتالي لا يستحقها.

لم تغب هذه المفارقة يومًا عن الخطاب الاسرائيلي السائد. في اليوم الأول من اندلاع النيران في الأحراش في أنحاء البلاد عام 2016، صرّح وزير المعارف نفتالي بنت: “فقط من لا يملك الأرض يستطيع حرقها” محمّلًا السكان الفلسطينيين مسؤولية اندلاع الحرائق ومتناسيًا في الوقت ذاته حرق واقتلاع المستوطنين لأكثر من 1,000 شجرة زيتون شهريًا بالمعدل. تشكّل اذا الطبيعة ساحة تنعكس وتنتج فيها علاقات القوى بين المستعمِر والمستعمَر، في حين يحاول الإسرائيلي التأكيد على علاقته بالطبيعة كأداة لتجذير شرعية وجوده وملكيّته على هذه الأرض وتحويل الفلسطيني إلى دخيل عليها. يعجز الإسرائيلي عن فهم بديهية علاقة الانسان الفلسطيني وصلته بطبيعة البلاد وأرضها، بل ويطمح إلى الحدّ من هذه العلاقةـ وإلى ادانة الإنسان الفلسطيني وحصر حياته في غيتوهات تُدفَن فيها الأشجار وتحرّم الأزهار وتنرصّ البيوت في مساحة آخذة بالتقلص. قد يكون الوصف الأدق لهذه الحالة في ما ورد في قصيدة “عنبر” للشاعر طه محمد علي:

 والوافدون // بحّارة مغتصبون // يزيلون الحواكير ويدفنون الاشجار// يمنعوننا من اطالة النظر // إلى زهور البرقوق وعصا الراعي // ويحرمون علينا لمس البقول // والعلت والعكوب

لا تتسع هذه الأسطر للإسهاب في سياسات الطبيعة المختلفة وتقاطعها مع القانون. كُتب عن بعضها مؤخرًا، مثل قانون الماعز الاسود، ومنع قطف العكوب والزعتر، واستغلال الموارد الطبيعية في الضفة الغربية بواسطة بناء الكسّارات وغيرها. إنما لا شك في أنّ الطبيعة شكّلت وما زالت تشكّل أرضًا خصبة لمشاريع استعمارية تحاول، الى جانب مصالح ماديّة واقتصاديّة تصب في رفاهية المستعمِر، ترسيخ أفكار مضلّلة تُصَوِّر فيها أرض فلسطين على أنّها “صحراء خالية ومقفرة”، جاءت إليها الصهيونية “فأزهرت الصحراء”. في الحقيقة، لم تكن فلسطين “أرض مقفرة”، بل كما وصفها الشاعر حنا أبو حنا: ” لنا وبنا // فيها نبت على جذور التين والزيتون // وسريت في نبض الدوالي”. نهايةً، لم تزرع الأشجار الإسرائيليّة “لتزهر الصحراء” انما لتمسح عن الأرض ذاكرة أهلها.