ميسانة موراني

في البدء تكون القوة، قوة الذراع والسلاح، الحليفة الأولى للنظام الاستعماري-الاستيطاني لفرض سيطرته على البلاد المستعمرة، شعبًا وأرضًا. فبحجة الحرب، إن صحّت التسمية، نفَّذت الجماعات الصهيونية وإسرائيل جرائم القتل والتهجير والتطهير العرقي التي أتاحت فرض السيطرة على الفلسطينيين وتحديد عددهم في الدولة الصهيونية العتيدة. نتج عن النكبة تدمير قرابة 600 قرية وبلدة فلسطينية وتهجير أهلها ليصل عددهم الى قرابة 750 ألف لاجئ فلسطيني. بقي في الأراضي المحتلة عام 1948 حوالي 50 ألف فلسطيني تم تجميعهم في 139 بلدة عربية بالإضافة إلى منطقة السياج في النقب. لتعزيز السيطرة عليهم، تم فرض حكم عسكري دام عشرين عامًا لتُسيطر إسرائيل من خلاله على أماكن وجودهم وتحركاتهم وشتى مجالات حياتهم، بما في ذلك صورة ونموذج المجتمع الذي سيتم تشكيله بعد انهيار مجتمع ما قبل النكبة.

ولكن شرعية الاستخدام المباشر للقوة تبقى محدودة الصلاحية، فالمجتمع الاستعماري يسعى للشعور بالاستقرار والثبات، بطبيعية وجوده وكيانه السياسي وكأنه جزء من المشهد العام للمنطقة منذ الأزل. وهنا يُشكّل القانون الغطاء الأفضل لشرعنة اعمال القوة ولتبيضها.

المرحلة الأولى والمُلحة لاستعمال القانون كانت لتبييض العمليات التي تمت دون تفويض أو صلاحية أو بشكل اعتباطي وعشوائي ودون حجة أمنية. فمثلًا مع اتمام عمليات السيطرة على الأرض قامت إسرائيل في العام 1953 بسنّ قانون يعرف باسم “قانون الحرام”. ووفقًا للقانون، فإنّ لوزير المالية الصلاحية بالمصادقة بأثر رجعي على عمليات الاستيلاء على الأرض التي قام بها الجيش بالسنة الأخيرة دون تخويل ودون وجود حاجة أمنية أو استيطانية.

بواسطة القانون يستطيع المُستَعمِر أيضًا أن يخلق واقعًا حقائقيًّا-قانونيًّا جديدًا يخدم مصالحه عن طريق تبني تعريفاتٍ جديدةٍ أو صياغة مفهومٍ جديدٍ للمصطلحات المُتبعة وبذلك تغيير المنظومة الحقوقية المُترتِّبَة عليها. فمثلًا، قامت إسرائيل سنة 1950 بسنّ قانون أملاك الغائبين الذي يخلق تعريفًا قانونيًّا جديدًا بكل ما يخص منظومة المُلكية على الأرض. يقضي القانون، مثلًا، بأنّ من ترك بيته خلال أحداث النكبة واتجه لمنطقة أخرى لم تُسيطر عليها إسرائيل بعد هو غائب وبذلك يفقد حقوق مُلكيته لصالح الدولة. بعد هذا القانون أصبح الجدل لا يَدور حول شرعية مصادرة أملاك من تعتبرهم إسرائيل غائبين فحسب، بل حول صحة الوقائع التي يستند عليها تطبيق القانون وبهذه الحالة – صحة اعتبار شخص ما غائبًا. هذا التعريف يخلق واقعًا جديدًا لا يَمِت للواقع بصلة، فالغائب قانونيًا يفقد كل حقوقه ولو كان حاضرًا أشدّ حضور على أرضه، على أرض الواقع وحتى لو حمل الجنسية الإسرائيلية. من المُمكن تتبع عملية شبيهة لتغيير واقع الحقائق القانونية في حالة الفلسطينيين في النقب، حيث خلقت إسرائيل معنى جديدًا لمفهوم المُلكية وذلك عن طريق اعتماد تفسيرات معينة للقانون العثماني تُؤدي إلى نتيجة واحدة – حقوق البدو الفلسطينيين على أرضهم التي يفلحون منذ سنين لا ترتقي لأن تكون حقوق ملكية.

بعد أن  فرغت إسرائيل من تبيض “المسائل الحارقة” بدأت باستخدام القانون كأداة منفصلة لتعزيز السيطرة والاستيطان حيث قامت إسرائيل باستعمال القانون الانتدابي، قانون الأراضي (المصادرة لمصلحة الجمهور)، لمصادرة الأرض العربية وتخصيصها لأهداف تخدم مصلحة “الجمهور” اليهودي فقط. فبَنَت مستوطنات جديدة يسكن فيها اليهود فقط؛ وحولت الأراضي الزراعية لمنتزهات ومحميات طبيعية أو منشئات عسكرية؛ ونقلت ملكية الأراضي للأجسام الصهيونية المختلفة. بهذه الطريقة “تبخرت” الملكيّة الفلسطينية للأرض لتُصبح كل الأرض، للدقة 93% منها، مُلكًا لدولة إسرائيل. ولإخفاء ما تنطوي عليه هذه المصادرات من عنف، حرصت إسرائيل على ان تشمل كافة هذه القوانين على ثلاثة عناصر. أولًا، حرصت إسرائيل في قوانينها على استخدام لغة قانونية حيادية لتخفي العنصرية الكامنة في هذه القوانين وليصعب على من لا يعرف كيفية تطبيقها على أرض الواقع فهم الإشكالية فيها. فمثلًا، حتى قانون لجان القبول الذي يهدف إلى قوننة سياسات الفصل العنصري في المسكن يحتوي على بند يمنع التمييز على أسس عرقية ودينية وقومية وغيرها. تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ إسرائيل استغنت مؤخرًا عن الحاجة إلى إخفاء الجانب العنصري الاستعماري للقوانين وشرعت بسنّ قوانين لا تخفى أهدافها الاستعمارية لا من ناحية اللغة المكتوبة في القانون ولا من ناحية أهدافه وفق ما يصرح عنها المشرعون أنفسهم.

ثانيًا، شملت قوانين الأراضي عنصر شرعنة آخر و هو منظومة الطعن بقرارات السُلطات المختلفة وذلك يشمل فتح المجال أمام المتضررين من قرارات السُّلطة بالتوجه للمحاكم. هذه الإمكانية مبنيّة على فرضية كون المحاكم أجسام مهنية وحيادية ومُستقلة، بوصلتها العدل، وتعمل انطلاقًا من مبدأ “سُلطة القانون”. هذه الفرضية التي قد تكون صحيحة في دول أخرى لا تنطبق على واقع المنظومة القضائية في الدول المستعمِرة حيث يُستخدم خطاب العدل والحق لإخفاء كون هذه المحاكم ذراعًا من أذرع السُلطة الاستعمارية وكون القضاء يُشكِّل، بامتحان النتيجة، غطاءً صُوريًّا أو شكليًّا لها. ثالثًا، تستعمل السُّلطة أيضًا أداة التعويض المالي لتعزيز صورتها كنظام عادل ولشرعنة أعمالها العنيفة. فبعد الحصول على بديل مالي، يفقد اللاجئ شرعية مطالبته بحق العودة.

 بعد أن تمت مصادرة ما أمكن من حقوق المُلكية للفلسطينيين، انتقلت إسرائيل إلى مرحلة تحديد استخدام ما تبقى من الأرض، حيث انتهت من رسم حدود الحيز الجغرافي لتواجد الفلسطينيين وانتقلت الى هندسة هذا الحيز وآفاق تطوره. هنا، استُعملت أدوات تخطيطية-إدارية مُتعددة وأكثر دهاءً من الأدوات السابقة حيث يستعصي حتى على المهنيين أحيانًا فهم ورؤية تأثيرها المستقبلي. فالأدوات التخطيطية تُغطي عنفها بتسويغات “المهنية” و”المصلحة العامة”. تتم عمليات التخطيط عادة في سراديب المكاتب الحكومية ولا تُعرض على الجمهور إلا في مرحلة متأخرة تُمكن المواطنين من محاولة التصدي لها فقط وعادة ما تكون إمكانيات الطعن في هذه المخططات محدودة بسبب غطاء المهنية. ربما يكون أسوء ما في الأدوات التخطيطية هو تفتيتها لمقاومة الناس، فبينما يكون تأثير مخططات مصادرة الأراضي مرئي وحاضر على أرض الواقع بالنسبة للناس، فإنّ تأثير المُخططات التي تمر في بيروقراطية المؤسسات التخطيطية عادة ما يبقى محصورًا لسنوات عديدة في الخرائط ويتنَبَّهُ الناس اليه فقط حين يحين موعد تنفيذ المُخططات على أرض الواقع، وعندها تكون التحركات الشعبية متأخرة. إحدى الاشكاليات الجدية الأخرى الناتجة عن الأدوات التخطيطية والمخططات المنبثقة عنها هي قدرتها على تحويل قضايا الأرض من قضايا جماعية إلى قضايا فردية حيث من السهل حرف النقاش للوم الفردي أو المصلحة الفردية، فنسمع حينها “حدا قله يبني بدون ترخيص؟” للوم صاحب أو صاحبة بيت مهدد بالهدم. وقد تبرز حينها اشكاليات تضارب المصالح التي تُغيّب الجانب الجماعي للقضية. فمن يحارب ضد مصادرة أرضه لشق طريق جديد لن يحظى بدعم الجار الذي بتقديره قد يستفيد من الشارع.

 كما سبقت الإشارة، تفرض إسرائيل سيطرتها على ما تبقى من أراضي الفلسطينيين عبر بيروقراطية التخطيط التي تواري تركيز وكثافة العنف في أروقة لجان ومؤسسات التخطيط وبيروقراطيتها. في ظل ذلك، قد لا يشعر الفلسطيني بأن فقدان الأرض ما عاد مقتصرًا بالفقدان المادي لها فحسب، بل يشمل اليوم محدوديات تخطيطية وإدارية تتسبب بأزمات واقعه المعاش. فمثلًا، خُطت مناطق نفوذ البلدات العربية بشكل دقيق لتمر بمحاذاة البيت الأخير في كل بلدة مُحَولةً بذلك كل مساحة البلدات إلى كُتل سكنية مكتظة، تاركة أجزاء كبيرة من الأراضي الزراعية التابعة لأهالي البلدات خارج مناطق نفوذها. رسم مناطق النفوذ بهذه الطريقة يؤثر على الفلسطينيين على مستويات عدة وله إسقاطات مختلفة على حياتهم. على المستوى الفردي، رغم أنّ الفلسطيني لم يفقد حقه في المُلكية نتيجةً لرسم مناطق النفوذ، فإن أرضه أضحت تابعة إداريًا للسُّلطات المحلية اليهودية، وهي بالنسبة له سُلطات مُعادية لا يملك تمثيلًا فيها، فيما تتولى هي في المقابل صلاحيات تخطيط المنطقة والقرار الذي يُحدد إمكانيات استخدامه لأرضه كما أنها تُحدد مبلغ الضريبة التي يتوجب عليه دفعها والخدمات التي سيحصل (أو لن يحصل)  عليها.

على مستوى السُّلطات المحلية، أدى رسم مناطق النفوذ بهذه الطريقة الى تشكيل مسطحات قرى مكتظة لا تُقدم لسكانها إلا الحارات السكنية التي تكاد لا تكفي لاحتياجاتهم الآنية. كما أدت المساحة المحدودة للبلدات للحد من آفاق التطور المستقبلي لها حيث أنّ الأراضي المحاذية لها، والتابعة لها تاريخيًا، أمست تابعًة للسلطات اليهودية المجاورة وتحت تصرفها الإداري والتخطيطي. بالإضافة إلى ذلك، خسرت البلدات العربية المدخول العائد من ضرائب هذه الأراضي – والذي قد يكون عالٍ جدًّا إذا ما كانت الأرض تصلح للاستعمال التجاري أو الصناعي – لصالح البلدات اليهودية. وبهذا، كُتب على البلدات العربية أن تكون من أفقر السلطات المحلية في الدولة مما يحد من قدرتها على توفير الخدمات الأساسية لسكانها وعلى إقامة المرافق الحياتية المهمة للبلدة.

مسطح القرية المحدود له، أيضًا، إسقاطات على المجتمع ككل وليس على أفراده فحسب. فالكثير من الظواهر الاجتماعية التي نعاني منها اليوم يمكن ربطها بشكل مباشر بالنقص في مناطق النفوذ بدءًا من الفقر إلى البطالة وأزمة المسكن والنقص في الخدمات. بالإضافة إلى ذلك، فإن النقص في الأراضي التي يمكن استغلالها للسكن واخراج الأراضي الزراعية خارج مسطح القرية، بالإضافة إلى سياسات تضييقية أخرى، ساهمت في التمدين القسري والسريع للمجتمع الفلسطيني. سياسة التمدين هذه ما زالت مستمرة، أيضًا، في النقب حيث تُصر الدولة منذ السبعينيات على تهجير البدو من قراهم التي ترفض الاعتراف بها الى بلدات مدنية لا تناسب طريقة حياتهم الفلاحية. أما في الجليل، فإنّ هذه السياسة تظهر جلية في الحلول التي تقترحها الدولة اليوم لأزمة المسكن في البلدات العربية. فالحل بحسبها لا يكمن في توسيع المسطحات إنما في البناء المكثف (البناء الى أعلى) ومنع التوسع على أرض إضافية.

لم تكتف إسرائيل بحد البلدات العربية بمناطق نفوذ ضيقة وبتطويقها بمستوطنات مجاورة بل قامت أيضًا بانتهاج سياسة تخطيطية خاصة بالبلدات العربية وهي سياسة اللا تخطيط. فالكثير من البلدات العربية لا زالت تفتقد لخارطة هيكلية حديثة وآنية كما أنّ الكثير من هذه الخرائط لا يفي باحتياجات السكان. بعد سنوات من عدم التخطيط، أصبحت غالبية البلدات العربية كالعشوائيات من الناحية التخطيطية. فالكثير من سكانها – وبعد سنين من اليأس من الحصول على ترخيص للبناء على أرضهم أو من توسيع المسطح أو تخصيص قسائم جديدة للبناء –   قاموا ببناء بيوتهم دون ترخيص. في هذه الحالة، أيضًا، بدل أن تتحمل إسرائيل مسؤولية “إهمالها” للتخطيط وإعطاء حلول مناسبة، اختارت أداة أخرى تُعزز السيطرة حيث قامت في العام 2016 بسّن قانون كامينتس. يُعدّل قانون كامينتس قانون التخطيط والبناء ويهدف لتنجيع أساليب وسيرورة هدم البناء غير المُرخص عن طريق فرض عقوبات مالية وتوسيع الصلاحيات الإدارية على حساب الصلاحيات القضائية. نتيجة لهذا القانون، تقبع اليوم حوالي 50000 عائلة تحت التهديد بهدم منازلها بحجة البناء غير المرخص.

يُشكّل قانون كامينتس، عمليًّا، نقطة التقاء يمكن أن نرى من خلالها كيفية تكاتف أدوات السيطرة والعنف الحيزيّ سوية. فمن جهة نحن نرى كيف يُساهم التخطيط – وعدم التخطيط (الذي هو أيضًا تخطيط) – بخلق واقع معين وكيف يُساهم القانون بتجريم هذا الواقع ليسمح فيما بعد للدولة بالعودة لتفعيل العنف المباشر. ولكن هذه المرة لن تُسمى المَشاهد، التي تشبه مَشاهد النكبة، عنفًا. فالعنف قد تعمّد بسُلطة القانون، وتطهر بالحياديّة والمهنيّة التخطيطيّة ومن ثم تعطر بالمصلحة العامّة.