النكبة مستمرّة، وأهم أوتادها مثبّتة في القانون. هذه كانت الفكرة من وراء مشروع “النكبة والقانون” الذي أنشأ هذا الموقع.
تجدون في هذا النص ثلاثة من محرري الموقع، حسن جبارين، كاثرين فرانك، وسهاد بشارة، اذين يشاركون أفكارهم حول النكبة، القانون، وما بينهما.
حسن جبارين: لا يمكن الفصل بين امتيازات اليهود وتهجير الفلسطينيين
تستمر النكبة ملازمةً للقانون في فلسطين/ إسرائيل بطرقٍ عديدة غير مباشرة. ولكنّها أحيانًا تحاكي النكبة بشكلٍ مباشرٍ، كما حدث عندما صادقت المحكمة على دستوريّة ما يُسمّى “قانون النكبة”. هذا التشريع البغيض الذي يخوّل الدولة بقطع الميزانيّة عن أي مؤسسة – بما في ذلك المدارس، الجامعات، السلطات المحليّة – تُحيي “يوم تأسيس الدولة باعتباره يوم حدادٍ”، أو في حال ظهر بأنّ المؤسسة تتحدّى “وجود إسرائيل كدولةٍ يهوديّة وديمقراطيّة”.
إن قانون النكبة هو تقييد واضح ومقلق لحريّة التعبير. ولكنّه، أكثر من ذلك، يذكّر بأنه من غير الممكن فصل النكبة عن سعي إسرائيل لتعريف نفسها كدولةٍ “يهوديّة وديمقراطيّة”. فنحن نعرف من عدّة تصريحات لسياسيين وغيرهم ما يعنيه هذا الاصطلاح: الالتزام بتفوّق ديمغرافيّ يهوديّ داخل الخطّ الأخضر ورفض حقّ عودة اللاجئين الفلسطينيين. إن منطق هذا القانون، كما قرار المحكمة الذي يؤيّده، هو أنّ إحياء ذكرى النكبة – بمعنى التمسّك بتجربة وذاكرة الفلسطينيين داخل إسرائيل- هو رفضٌ لشرعيّة هذه الدولة. أو بالعكس؛ أنّ التأكيد على شرعيّة الدولة يأتي من خلال إعادة سن عمليّة طرد وسلب الفلسطينيين وتحويلهم إلى لاجئين، حتّى وإن كانوا مواطنين يعيشون في موطنهم. بهذا المعنى، فإن المطالبة باعتراف الفلسطينيين بشرعيّة إسرائيل كدولةٍ يهوديّة لا يمكن فصلها عن مطالبتهم بالاعتراف بشرعيّة النكبة وعمليّة تهجيرهم.
حتى الان، قد تمّ التعامل مع النكبة غالبًا كموضوع للبحث التاريخيّ، وذلك في غاية الأهميّة. كما أنه من الشائع الحديث في أوساط الفلسطينيين عن “النكبة المستمرّة” في الحاضر من أجل وصف الاستمراريّة بين الماضي وممارسات التهجير والسلب في الحاضر – بمجالات مثل مصادرة الأراضي والتمييز بالمسكن ومنع لمّ الشمل. مشروع النكبة والقانون يهدف إلى فهم تثبيت النكبة كحاضر واقعيّ من خلال الجهاز القضائيّ.
هناك علاقة جدليّة. ممارسات إسرائيل المنهجيّة في سلب حقوق الفلسطينيين ترتبط بالامتيازات المنهجيّة لليهود من خلال قانون العودة. بفضل قانون العودة، لا يحتاج اليهود أن يتقدّموا أبدًا بطلبٍ لتأشيرة خاصّة حتى يعيشوا مع عائلاتهم في إسرائيل؛ لا يمكن أبدًا اعتبارهم “غائبين” وأن يمكن، بالتالي، مصادرة أملاكهم. بين استلاب الفلسطينيين وامتيازات اليهود علاقة وطيدة ومتينة. ويمكّن القانون من وجود هذه الديناميكيّة، وفي الوقت ذاته يموّهها. مشروع النكبة والقانون يحاول رسم الروابط من أجل توضيح هذه الديناميكيّة وتوفير فهمٍ أعمق لها. من دون مواجهة هذا الواقع، من غير الممكن تحقيق أي مصالحة أو “بداية جديدة” بين الفلسطينيين وإسرائيل.
* حسن جبارين هو المدير العام لمركز عدالة
كاثرين فرانك: نحو “دراسات النكبة”
في 14 أيّار 1948، دقيقة واحدة بعد أن تخلّت بريطانيا عن سيطرتها على فلسطين، والتي سيطروا عليها بانتداب عصبة الأمم بعد الحرب العالميّة الأولى، أعلن رئيس الوكالة اليهوديّة، دافيد بن غوريون، قيام دولة إسرائيل. قبل أيام قليلة، في الذكرى الـ68 لإعلان بن غوريون، شاركت في “بار متزفاه” لأحد أبناء عائلة صديقي في كنيسٍ أرثذوكسيّ في مدينة نيويورك. جلست في الأعلى، في قسم النساء، في الـ”محيتسا”، وأصغيت إلى الرابي وقنصل إسرائيل في نيويورك وهو يحكي قصّةً معروفة: عن إسرائيل باعتبارها الأرض الموعودة لليهود من قبل الله، عن إسرائيل باعتبارها “الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط”، وعن الدولة التي تعامل كل مواطنيها، الصهاينة والآخرين (من المثير أن القنصل لم يقل “اليهود والآخرين”) بعدالةٍ ومساواة رغم التهديد المستمر بالابادة من قبل جيرانهم الإسلاميين.
هذه القصّة المعروفة، قصّة القدر الالهي المُعطى، الاستيطان بعد الإبادة، والدولة الأعجوبة التي نمت منذ نشأتها في العام 1948.
عندما أعلن دافيد بن غوريون قيام دولة إسرائيل يوم 14 أيّار 1948، كانت هذه كلماته حرفيًا: “نعلن بهذا عن قيام دولة يهوديّة في فلسطين، واسمها إسرائيل”. وعلى الرغم من إجماع طاقم السياسات الخارجيّة للرئيس الأمريكيّ ترومان على الرفض، إلا أنه اعترف فورًا بالدولة الجديدة باعتبارها سلطة الأمر الواقع للدولة اليهوديّة الجديدة، دولة إسرائيل. (التصليح الذي حذف “دولة يهوديّة” واستبدلها بـ”دولة إسرائيل”، تمّ بخط اليد على البيان الصحفيّ الأصليّ الموقّع من قبل الرئيس ترومان).
يُمكن لهذه أن تكون القصّة التي تُروى من وجهة النظر الصهيونيّة. إنما من وجهة هؤلاء الذين كان إعلان بن غوريون بالنسبة لهم نكبةً، أي كارثة، فقد جاء هذا الخطاب ليلخّص ويختتم ويثبّت عنفًا مدمِّرًا يتحمّلونه حتى يومنا هذا. جزء من هذا العنف كان في محو كلمة “في فلسطين” لاحقًا من السياق والموقع الذي تأسست فيه دولة إسرائيل كما نعرفها اليوم وكما يحتفي بها الصهاينة.
إلى حدٍ بعيد، تنهل الدراسة الأكاديميّة للنكبة، للتأسيس العنيف لدولة إسرائيل وللقوّة التي ثبّتت هذا التأسيس وتواصلت مع احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، من تحليل الاستعمار الاستيطانيّ. وفي أغلب الأحيان، يُعتبر السياق الفلسطينيّ موضوعًا ملائمًا للتأسيس على الأرضيّة الفكرية التي تشكّلت من خلال دراسة الاستعمار الاستيطاني.
مع هذا، وكما ذكر بعض الباحثين، فإن تحليل الاستعمار الاستيطاني قد لا يكون أفضل أداة لفهم هويّة، عنف، انتماء، وتهجير فلسطين والفلسطينيين. للتأكيد، فإن حالة إسرائيل هي حالة مجتمع مستوطن، إلا أن هؤلاء المستوطنين لم يهاجروا من أجل إقامة مستعمرة تخدم مصالح دولة سياديّة بعيدة عن مكان استيطانهم، يحفظ المستوطنون الولاء لها، ويمكنهم بنهاية المطاف العودة إليها. لم يقم المستعمرون الأوائل في إسرائيل بأعمالٍ اقتصاديّة وجيوسياسيّة لصالح دولة أجنبيّة. إنما كان الكثيرون منهم لاجئين من عنف دولٍ ضدّهم، بحثًا عن ملاذٍ من ذلك العنف الشنيع. وعليه، ومع التقدير، فإن الاستيطان، السلب، الانتماء، الهويّة الوطنيّة، والمواطنة في السياق الإسرائيليّ\الفلسطينيّ هي مصطلحات تحتاج وضعيّة جديدة من التحليل بدلًا مما صاغه الأنثروبولوجيّون، المؤرّخون، باحثو الأدب، السوسيولوجيّون، القانونيّون، العلماء السياسيون، الاقتصاديّون وغيرهم من الباحثين في حالات مثل الهند، جنوب أفريقيا أو الجزائر مثلًا.
إن أردنا اعتماد حقلٍ بحثيّ جديد، حقل يُمكن أن نُطلق عليه اسم “دراسات النكبة”، فكيف له أن يتيح امكانيّة التفكير بتوجّهات جديدة لمعرفة فلسطين ومعرفة إسرائيل بما يتجاوز إطار الاستعمار الاستيطانيّ. حين تشكّل القضيّة الفلسطينيّة مثالًا نموذجيًا، أي أشكال الاقتصاد السياسيّ، أي وضعيّات الحرب، أي أنواع العنف يمكنها أن تطفو على السطح؟ ما الذي يُمكن أن يُكشف بعد أن تم تهميشه نتيجة استخدام أدوات الاستعمار الاستيطاني للتحليل كما حدث حتّى اللحظة؟ كيف يُمكن فهم المستوطنات التي شُيّدت باسم الصهيونيّة بشكلٍ مختلف عدى عن كونها مستوطنات مدفوعة من الامبرياليّة؟ ما هي الكوارث الأخرى التي يُمكن أن تُطرح للقراءة والبحث بواسطة أدوات ومنهجيّة التحليل التي توفّرها “دراسات النكبة”؟ ما هي الحسنات، وما هي محدوديّات، طبيعة التمثيل التي تشكّل مدلولات معيّنة – النكبة في هذه الحالة، مهما أردنا تعقيد تعريف المصطلح – بالمقارنة مع المنهجيّات التي يُمكن أن نجدها في الاستعمار الاستيطاني، حقوق الإنسان، أو الامبرياليّة؟
* كاثرين فرانك هي محاضرة في القانون في كليّة القانون في جامعة كولومبيا.
سهاد بشارة: القانون يُطبّع النكبة
من المهم أن نكشف عن العلاقة بين القانون والنكبة، بما في ذلك من خلال القضاء الإسرائيليّ. قضاة إسرائيل يعملون بدأب من أجل تمكين وتأبيد تهجير الفلسطينيين، خاصةً من خلال مصادرة الأراضي، وهي واحدة من أهم أدوات منع العودة. إن الهدف الرئيسيّ بالنسبة للمشرّعين ومفسّري القانون الإسرائيليين هو جعل كل ما يتعلّق بالأملاك الفلسطينيّة قضيّة قوميّة – إن كانت الأملاك تابعة للاجئين أو فلسطينيين مواطنين- بموجب القانون الإسرائيليّ. لم يفصل المشرّع ولا القاضي بين اللاجئين والمواطنين بما يتعلّق بالأهداف النهائيّة لقوانين مصادرة الأراضي التعسّفية التي تمّت صياغتها بهدف تحويل المفاهيم الصهيونيّة إلى واقعٍ قانونيّ. وقد أوّلت المحاكم القانون باستمراريّة وتماسك بشكلٍ لا يترك أي ثغرة او إمكانيّة لإعادة النظر بمصادرة النكبة لأراضي كل الفلسطينيين، بغض النظر عن مكان تواجدهم أو مكانتهم القانونيّة. لقد احتاجت النكبة قانونًا، والقانون جعل النكبة طبيعيّة.
لطالما طبّقت النكبة الضرورة الصهيونيّة للسيطرة على الأراضي وعزل الفلسطينيين عنها. لنأخذ مثلًا غير مألوفٍ: بموجب اتفاقيّة وقف إطلاق النار عام 1949، سلّمت الأردن لإسرائيل بعض المناطق التي ظلّت تحت سيطرتها خلال الحرب، وخاصةً منطقة “المثلث” التي تضمّنت مدينة أم الفحم. وتحوّل الفلسطينيّون الذي لجأوا إلى هذه المنطقة خلال الحرب مواطنين إسرائيليين. ومع هذا، فقد تمّ التعامل معهم على أنّهم “غائبين” بموجب قانون “أملاك الغائبين” الإسرائيليّ (1950) وصودرت أراضيهم من قبل الدولة.
لمجرد أنهم قضوا بعد الوقت – قسرًا- في ما يُسمى منطقة “عدو”، تم منحهم المكانة الدائمة التي لا رجعة عنها: “غائبين”. إن هذا التوجّه الذي صادقت عليه المحكمة العليا في قضيّة سمارة عام 1956: من غاب مرةً، غاب للأبد – هو وأولاده وأحفاده.
وضع آخر، والذي كتبت عنه مادةً منفصلة في هذا الموقع، هو قانون مصادرة الأراضي الصادر عام 1953، وصلاحيّته لعام واحدٍ، والذي يسمح للدولة بأن تصادر الأرض حتّى وإن كان الفلسطينيون في يقطنون في إسرائيل ولم يغادروا بيوتهم أبدًا. مرة أخرى، رفضت المحكمة أن تُخضع القانون إلى أي امتحان دستوريّ بهذا الشأن، وبدلا من ذلك شرعنت اسقاطات النكبة.
تُظهر هذه القضيّة بأنه في تعامل إسرائيل مع الفلسطينيين، فإن التصنيف القانونيّ الأهم هو مكانة الفلسطينيّ بالنسبة للأرض، أما المواطنة، فتأتي بعد ذلك. تماشيًا مع هذا، أمّن القضاء الإسرائيلي مساحة خالية من أي تحدٍ قانونيّ حقيقيّ لنظام الأراضي التابع للدولة، وقلّص بهذا أي مساحة لخطاب مدنيّ حول الحقوق بمعزل عن الالتزام بالصهيونيّة والالتزام بتأبيد نتائج النكبة. ملفات النكبة هو موقع سيعمل على كشف مواضع أصغر وأكبر أساليب لعمل القانون على تطبيع الصهيونيّة.
سهاد بشارة هي مديرة وحدة الأرض والتخطيط في مركز عدالة.
Recent Comments