يارا سعدي
لطالما استخدمت الحركة الصهيونيّة أدوات وخطاب المدارس العالميّة في التخطيط الحضري لتعليل وتبرير عمليات الاستعمار الاستيطاني في البلاد ومحو هوية المشهد الفلسطيني. على سبيل المثال لا الحصر، استخدام التخطيط “الحديث” في بدايات القرن العشرين كوسيلة لمحاكاة الغرب، وشرعنةً للاستعمار مقابل ما أسمته بالبناء العربي “البدائي”. وهكذا مع تطور السياسات النيوليبراليّة في مجال التخطيط في العديد من مدن العالم في العقود الأخيرة، تبنّت إسرائيل أدوات وخطاب النيوليبىراليّة لتغيير الحيز، بما في ذلك ما تبقى من الحيز الفلسطيني الحضري. يناقش هذا المقال نتائج السياسات النيوليبراليّة في السياق الاستعماري الاستيطاني، وذلك لاستقصاء نوع الخطاب الذي تنتجه هذه المشاريع وما تغيّبه من واقع بديل. كما يناقش المقال الخطابات المناهضة للتخطيط النيوليبرالي عالميّا، بالتشديد على المطالبة “بالحق في المدينة”، معنى هذا التخطيط وإمكانياته في واقع الفلسطينيين داخل الأراضي المحتلة عام 1948.
النيوليبراليّة كأدة تخطيطيّة صهيونيّة
ابتداءً من مأسسة الاستيطان الصهيوني في فلسطين، من خلال الكونغرس الصهيوني الأول عام 1897، تمّت موضعة التخطيط في أولويات العمل الاستيطاني. كما تم تبني أنواع من التخطيط والهندسة المعمارية، بعضها أوروبية وأخرى كولونياليّة، وذلك تماهيا مع الغرب ومن أجل محو المشهد الفلسطيني. استمر هذا التوجه بعد النكبة، حيث تم هدم الكثير من الأحياء الحضرية والقرى الفلسطينية وما استثني منها تمّت المحافظة عليه بمعزل عن سياقه التاريخي والاجتماعي[i]، إضافة إلى سياسات تخطيطيّة مهمِشة لما تبقى من الحيز الفلسطيني[ii]. كما وسنّت إسرائيل قوانين للسيطرة على أملاك اللاجئين وشرعنة بيعها في السوق الحر، بالإضافة إلى منع بيع الأراضي المسلوبة للعرب والتي تم تصنيفها كأراضي دولة.
شكّلت سنوات التسعينيات بداية تحول السياسات الاقتصاديّة الإسرائيليّة إلى النيوليبراليّة. بموازاة ذلك، تغيّرت أسس التخطيط الإسرائيليّ من تخطيط قومي إلى تخطيط نيوليبرالي[iii]، حيث انعكس ذلك في السعي إلى تكثيف السكان في المدن القائمة بدلًا من الانتشار السكانيّ (مبدأ اعتمدت عليه الصهيونية منذ بدايات الاستعمار). كما زاد الاعتماد على الاستثمار الخاص بدلا من المبادرات العامة، كما تم تسهيل عملية ترخيص البناء ومُنحت بعض الإعفاءات الضريبيّة. أصبح “التجدد الحضري” أحد إفرازات هذه التسهيلات، حيث طُهّرت بعض الأحياء الفقيرة طبقيًا (Gentrification)، منها عدد كبير من الأحياء الفلسطينيّة التاريخيّة، من خلال دعم البلديّة واستثمار القطاع الخاص مما يؤدي إلى إفراغ هذه الحارات من سكّانها الفقراء واستبدالهم بسكان ينتمون للطبقات الغنيّة، وذلك لإثراء الأغنياء والمستثمرين. ينطوي استبدال السكان على سياسات ترتكز بمضمونها على العنف، وهو أحد ركائز النيوليبرالية عامة، حيث تنتشر شركات الحراسة والرقابة الخاصة ويتم تعميم خطاب “الأمن”[iv].
بينما يتم نقد النيوليبرالية وعمليات التجدد الحضري عالميًا لكونها تعمّق الفجوات الطبقيّة رغم صيغتها التكنوقراطية والمحايدة. يزداد هذا النقد حدة في السياق الاستعماري الاستيطاني، لكون النيوليبراليّة أداة تعزز وتساهم في السياسات العرقيّة المهيمنة. وبرز الوجه النيوليبرالي في السياق الاستعمار الاستيطاني مع ظهور الأبراج في مدينة تل أبيب، حيث أظهرت دراسة حول هذه البنايات[v] أنها وليدة صفقات تجاريّة بين البلديّة وشركات العقارات. بموجب هذه الاتفاقيّات بيعت أراضي القرى الفلسطينيّة المهجّرة حول مدينة يافا والتي أدى القضاء عليها إلى خلق مساحة خالية داخل المدينة المكتظة. لطمس هذا الفراغ قامت بلديّة تل أبيب ببيع هذه الأراضي مستخدمة خطاب العولمة والتصميم الحديث وحجّة الالتحاق بركب النيوليراليّة.
رغم النقد للمشاريع النيوليبرالية بسبب انحيازها الطبقي والإثني وتدعيمها لعلاقات القوة السائدة، إلا أنها قد تخلق ديناميكيات جديدة داخل المجتمعات وتبلور خطابات مختلفة. لعل من أبرز الأمثلة داخل السياق الاستعماري الاستيطاني هو إنتاج طبقات كومبرادوريّة لمنتفعين أصلانيين جدد[vi]. وفي المقابل، أدت السياسات النيوليبرالية إلى ظهور خطاب وحراك عالمي مناهض لها وللعنف الذي ترتكز عليه. وتمثلت بعض هذه التوجهات المناهضة في خطاب “الحق في المدينة”. ولكن، ما الذي يعنيه هذا “الحق في المدينة” لدى المجتمع الفلسطيني المهجّر بغالبيته؟
الحق في المدينة الفلسطينيّة
يعود مصطلح “الحق في المدينة” للمفكر هانري ليفبر (1996)، الذي رأى فيه مطالبة لمناليّة العيش الحضري والتأثير عليه والتأثر منه وذلك من خلال تمكين السكان من المشاركة بتخطيط وتصميم الحيز وفقًا لحاجاتهم (بدلا من شركات الاستثمار والأهداف الماديّة التي تصمم الحيز في الفترة النيوليراليّة). كما طوّر بعض المفكرين هذه المطالبة لتصبح إطارًا فكريًا نقديًا لمعنى المواطنة وضرورة دمج النضالات والحقوق الأخلاقية للمجموعات المهمشة المختلفة في المدينة[vii]. مرت المطالبة “بالحق في المدينة” في العقود الأخيرة بمراحل تطور عدة، وتم تفسيرها بطرق مختلفة، حيث رأى البعض – خلافا للتوجه الماركسي للمفكر ليفبر – اقتصار “الحق في المدينة” على مجموعات سكّانية ذات امتياز وإقصاء غيرها[viii]. في السياق الاستعماري الإسرائيلي، نرى أن ترجمة “الحق في المدينة” ينحصر في بعض الأحيان على حق اليهود بالعيش في تجمعات سكانيّة غير باهظة و”طاهرة عرقيّا”. أما المقالات التي تناقش حق الفلسطينيين في المدينة ونضالاتهم في هذا الإطار، فغالبا ما تأطّرهم كأقلية (أصلانية في بعض الأحيان)، داخل النظام التخطيطي الإسرائيلي[ix]. إلا أن غالبيّة هذه النضالات تبقى محدودة وتكتيكية بعيدة عن النظرة الشموليّة والمتطلبات الأخلاقيّة، حيث تتمحور حول الجوانب الاقتصاديّة والمطالب النابعة من المواطنة الإسرائيليّة، متجنبة المطالب التاريخيّة والقوميّة. أي أن العمل في سياق الحق في المدينة، يحد من المخيال السياسي والرؤية لما من الممكن السعي إليه من واقع بديل.
وعليه تبرز الحاجة لخطاب بديل للحق في المدينة لا يقتصر على ما تمنحه المواطنة الإسرائيليّة بل يشمل حقوق من طردوا من المدينة وسلب حقهم فيها. في السياق الفلسطيني نجد أن الانتماء للحيز العام والعلاقة الجدلية بين هوية المجتمع وهوية الحيز تنعكس في المطالبة بحق العودة. حيث أن “حق العودة” لا يقتصر على المطالبة القانونيّة والسياسيّة، بل يتعداها ليشمل الممارسات والفعاليات غير المُمأسسة التي يقوم بها الفلسطينيون، مثل مجموعات ومبادرات إلكترونية حول القرى المهجرة والمدن المنكوبة، مسارات مشي تاريخيّة للأحياء العربيّة المسلوبة وفعاليات جماعيّة في القرى المهجرة، وتأليف كتب ورسم خرائط للأحياء والقرى كما يذكرها اللاجئون. هذه الممارسات لا تهدف فقط الحفاظ على الذاكرة: بل تعمل أيضًا على صياغة إحساسنا بالانتماء إلى الحيز في الحاضر وتعميق فهمنا وخبرتنا به كفلسطينيين.
وقد تبرز ضرورة التساؤل حول المخيال والخطاب المنوط في “الحق في المدينة” على ضوء “حق العودة” في عدة حارات حضرية فلسطينية تتعرض لتجديد حضري، منها واقع حي وادي الصليب وشارع يافا في حيفا؛ حيث يعم الاستياء لما يتعرض له حي وادي الصليب من تجدد حضري نيوليبرالي شرس على أيدي الشركات العقاريّة التي تعمل لمحو الهوية الفلسطينية للمكان، بينما يتم تقبل التجدد الحضري (والذي تقوم بجزء منه ذات الشركات) في شارع يافا الفلسطيني، لكونه يوفر مكانًا ترفيهيًا شبابيًا (بما في ذلك للشباب العرب). وحتى النقد القليل حول ما يتعرض له شارع يافا يختزل عامة في النقد حول عملية الاستطباق النيوليبرالي، دون ذكر ماضي المكان، هوية البنايات العربية وكون “الحيز العام” فيه مشروط بوجود الفلسطيني كزبون آخر فقط. قد يظهر الحق في المدينة وحق العودة كحقين مختلفين – إذ أن الأول يناهض النيوليبرالية، بينما يطالب الثاني بإزالة الاستعمار الاستيطاني، ووفقا لذلك فالأدوات والخطاب لنيل هذين الحقيّن مختلفة. ولكن من أجل التشبث بالمخيال السياسي لحق العودة عند قراءة التغيرات في الواقع النيوليبرالي، فلا بد من قراءة جديدة – تدمج بين رفض تهويد الحيز ومحاولات محو المشهد الفلسطيني وبين التعامل مع أوجه النيوليبراليّة المختلفة من سياسات، خطابات وتغيرات مجتمعيّة داخليّة.
[i] كما حدث في قرية عين حوض والتي تم تحويلها إلى قرية فنانين إسرائيليين.
[ii] لعلّ من أبرز الأمثلة مخطط شارون والذي يشكل الخطة الهيكليّة الاولى لإسرائيل والتي تجاهلت وجود القرى الفلسطينيّة المتبقيّة.
[iii] Yacobi, H., & Tzfadia, E. (2017). Neo-settler colonialism and the re-formation of territory: Privatization and nationalization in Israel. Mediterranean Politics, 1-19.
[iv] Clarno, A. (2017). Neoliberal Apartheid: Palestine/Israel and South Africa after 1994. University of Chicago Press.
Harvey, D. (2012). Rebel cities: From the right to the city to the urban revolution. Verso Books.
Mayer, M. (2017). Whose city? from Ray Pahl’s critique of the Keynesian city to the contestations around neoliberal urbanism. The Sociological Review, 65(2), 168-183.
[v] Margalit, T. (2013). Land, politics and high-rise planning: Ongoing development practices in Tel Aviv–Yafo. Planning Perspectives, 28(3), 373-397.
[vi] Clarno, A. (2017). Neoliberal Apartheid: Palestine/Israel and South Africa after 1994. University of Chicago Press.
Peck, J. and Tickell, A. (2002). Neoliberalizing space. Antipode, 34(3):380-404.
Smith, N. (2002). New globalism, new urbanism: Gentrification as global urban strategy, Antipode, 34(3):427-450.
[vii] Lefebvre, H. (1996). “The Right to the City”. In Kofman E. &, Lebas E. (eds.) Writings on cities. London: Blackwell, pp. 63-184.
[viii] Mayer, M. (2017). Whose city? from Ray Pahl’s critique of the Keynesian city to the contestations around neoliberal urbanism. The Sociological Review, 65(2), 168-183.
Purcell, Mark. (2003). “Citizenship and the Right to the Global City: Reimagining the Capitalist World Order.” International Journal of Urban and Regional Research 27, no. 3: 564-590.
[ix] العدد الأول من مجلة “مكان”: www.adalah.org/en/content/view/7261
Recent Comments